تعديات تطال مواقعنا الأثرية والآثار والمتاحف تقرع ناقوس الخطر
“سورية متحف في الهواء الطلق” … عبارة درجت على ألسن كثير من الأثريين السوريين تعبيراً عن إيمانهم العميق بأن سورية تعوم على بحر من الآثار المنتشرة هنا وهناك،فأينما يولي المرء وجهه شطر الغرب أو الشرق أو الشمال أو الجنوب فإنك سرعان ما يدهش بوجود أوابد ومدن أثرية تعبر عن هوية سورية كبلد للحضارات تمتد جذورها إلى آلاف السنين،إلا أن الكثرة في المواقع الأثرية و تنوعها سرعان ما أصبحت هاجساً لدى الأثريين يتمثل بكيفية تأمين الحماية والحراسة لتلك المواقع الأثرية حتى لا يتم التعدي عليها أو تخريبها أو سرقتها،خاصةً في ظل النقص الحاد في عدد الحراس الذين يعتبرون عيون وآذان مديرات الآثار في مختلف المحافظات.
تعديات على المسجل وغير المسجل
كثير من الأثريين الذين التقينا بهم بينوا أن مواقعنا الأثرية المسجلة أو غير مسجلة تتعرض لكافة أشكال التعديات من قبل السكان المحيطين بها أو حتى البعيدين عنها، وذلك من خلال الزحف السكني والزراعي وبناء المقابر على المواقع الأثرية والأخطر من ذلك استغلال بعض هواة البحث عن “الطوامر” عتمة الليل للبحث عن الآثار والذهب في بعض المناطق وهذا ما يسمى بالعرف الأثري بالتنقيب السري، كل هذه التعديات بأشكالها المختلفة يشجعها غياب الحراس عنها وهي كثيرة.
نحتاج لـ2000 حارس
الدكتور بسام جاموس مدير العام للآثار والمتاحف كشف أن لمديرية الآثار و المتاحف 500 حارس فقط لـ5000 موقع أثري قائلاً : بما أنه لكل 100 كيلومتر ثمة 100 حارس لذلك فإن المواقع الأثرية تتعرض للتنقيب السري وأحيانا للتشويه رغم التآزر والتعاون مع وزارة الداخلية والجهات المختصة لكن هذا لا يكفي لذلك نحن نحتاج إلى 2000 حارس لحراسة المواقع الأثرية، هذا فضلاً عن حاجتنا لإنشاء شرطة سياحية في جميع المواقع الأثرية أسوة بالوطن العربي والعالم، كما لدينا أكثر من 5 آلاف موقع أثري و140 بعثة وطنية قد أثبتت جدارتها من حيث التنقيب المنهجي والعلمي والمشاركة في المؤتمرات الدولية والطاولات المستديرة ولكن بعثات التنقيب الوطنية لا زالت تعاني من نقص الكادر الوطني .
تأخر قمع المخالفة
من جهته بين محمد نضير عوض مدير المباني والتوثيق الأثري أن نقص الحراس له تأثيره السلبي على المواقع الأثرية من حيث عدم مقدرتهم على تغطية كافة المواقع وبالتالي المحافظة عليها وهنا يقع التخريب والتعديات على هذه المواقع بكافة أشكالها الأمر الذي تؤدي إلى تشويهها وأحياناً تدمير بعض السويات وإلحاق الأذى بها، فنقص الحراس تجعله يصل متأخراً إلى المخالفة وفي معالجتها وبالتالي قد تتفاقم المشكلة وتؤثر على هذه المواقع ، فمعالجة المخالفة في البداية تكون أيسر وأسهل .
أشكال التعديات الأثرية
وعن أبرز المخالفات والتعديات التي تطال المواقع الأثرية قال عوض: أغلب التلال والبيوت الأثرية المسجلة هي في أغلبها ملكيات خاصة أي تعود للمواطنين، فإحدى أشكال التعديات هي الزراعة بأشجار كالزيتون مثلاً والتي تؤثر بالنتيجة على الجداران والسويات والمعالم الأثرية، وأكبر أشكال المخالفات على التلال الأثرية هي المقابر وهنا راسلنا الجهات المختصة بأن تخصص أماكن للمقابر ضمن مخططات التنظيم العمراني بغية لنقل المقابر الموجودة على بعض التلال لمكان آخر،حيث تنتشر المقابر بكثرة في منطقة الجزيرة من سورية، كما أن مسألة المقابر حساسة مرتبطة بالمجتمع المحلي ويجب التوصل إلى حل لنقلها إلى أماكن أخرى .
مخالفات البناء
وتابع عوض حديثه قائلاً:ثمة مخالفات أخرى هي مخالفات البناء ضمن المواقع الأثرية المسجلة سواء أكانت تلال أو مدن،فبعض الأشخاص لديهم ملكيات محدودة وقد تكون ضمن الأماكن التي يمنع فيها البناء وبالتالي تلجأ إلى المخالفة علماً أن المديرية العامة للآثار والمتاحف ضمن توجهها المخطط تسعى إلى الوصول ما أمكن إلى إيجاد الحلول للناس للبناء أو تخصيص أماكن للتوسع ومعالجة المخالفات وبالتواصل مع المعنيين ولكن ونتيجة الأحداث الأخيرة التي تشهدها سورية ازدادت حدتها ولكننا دائماً نعول على وعي المواطن مع هذا الموروث الحضاري الذي يعكس هوية المجتمع ككل.
وعن سبل حماية المواقع الأثرية قال مدير المباني والتوثيق الأثري: من خلال زيادة عدد الحراس ووعي الاجتماعي وتعاون الجهات المتنفذة ولكن من خلال تكثيف الدوريات ووعي المجتمع المحلي يمكن أن يحد كثيراً من هكذا أعمال، يكلف كل حارس ضمن قطاعات أحياناً تكون ضخمة وأحياناً دون آلية وهذا يصعب عليه الوصول إلى بضها، كما أن تكثيف زيارة الحراس للمواقع الأثرية يحد من التنقيب السري .
مراقبة التعديات السكنية
من جهتها بينت المهندسة لينا قطيفان مديرة إدارة المواقع الأثرية أن قلة عدد الحراس لا يتيح للآثار مراقبة المخالفات السكنية اليومية التي تطالها، خاصة إذا ما عملنا أنه ثمة من يقطن ضمن الموقع الأثري كسكن وضمن عقارات أملاك الدولة كموقع “لرويحة” الأثري في جبل الأعلى في محافظة إدلب مثلاً، إضافة إلى وجود جرف للأراضي واستصلاح الأراضي للمناطق المحيطة بالموقع الأثرية وهذا ما يسيء إلى المشهد الطبيعي الثقافي، فالتنقيب السري لا يمكن مراقبته باعتباره يتم ليلاً ضمن إنارة ضعيفة ، كل فترة تزيد لنا الحكومة تعداد الحراس ولكنها لا تكفي.
ريف دمشق بحاجة ماسة للحراس
فيما اعتبر محمود حمود مدير دائرة آثار ريف دمشق أن اتساع الحدود الإدارية لمحافظة ريف دمشق بمساحة 17 ألف و500 كم مربع وامتدادها إلى حدود العراق شرقاً وحدود الأردن وحتى الحدود اللبنانية جعلها غنية بكثير من المواقع الأثرية المهمة التي تعود إلى مختلف العصور التاريخية وقال: ثمة في أعماق البادية الكثير من المواقع تحتاج لراعية وصيانة ولكن ثمة قصور في حماية المواقع الأثرية من التعدي فمن المحال تغطية هذه المواقع بالحراس لعدم وجودهم ، في بعض المواقع لدينا عدد كافي من الحراس ولكن ثمة مواقع أخرى في حاجة ماسة للحراس لحمايتها.
وتابع حمود قائلاً: عدم وجود عدد كافي من الحراس يبقي الكثير من المهتمين بالآثار والكنوز خارج قبضة العدالة، فالدولة وضعت الأطر القانونية والإدارية للنهوض بهذه المواقع الأثرية ولكن هذا لا يمنع من وجود قصور في بعض الجوانب ومنها أعمال الترميم لهذه الأبنية والتنقيب التي تحتاج لكوادر وتبقى الأولوية للحماية من كل أشكال التعديات .
مواقع أثرية أزيلت من الوجود
وأما عن أشكال التعديات وانتشارها في محافظة ريف دمشق فقال مدير مديرية آثار الريف: قد يكون الإشغال السكني في المناطق الزراعية كحوض دمشق التي نشأت عليها حضارات قديمة تعود لعصور مختلفة فالقرى الزراعية الأولى نشأت في تلك المنطقة كتل أسود وتل الرماد في قطنا وتل رغيفا وعدد من المواقع الأخرى،حيث شهدت تلك المناطق قبل خمسين عاماً هجرة سكانية إلى تلك المنطقة بسبب تركز الصناعات هناك وهذا ما أدى إلى حالة تمدد سكني مواكب لحركة التطور الصناعي والاقتصادي وبالتالي الاعتداء على الكثير من المواقع الأثرية بعضها محي عن الوجود وأخرى بنيت عليها مدن جديدة كتل حزمة الموجود بالقرب من النشابية، فبعد أن بحثنا عنه لم نجد متراً واحداً منه باعتباره مغطى بالأبنية والتنظيم عليه كما هو الحال في تل مسكنة الذي غطي الجزء الكبير منه بالسكن المرخص النظامي،إلا أننا من خلال اللجنة الإقليمية نحاول ألا تتمدد المخططات التنظيمية لهذه المواقع،أحيانا تقوم بعض الجهات الرسمية والخاصة بشق الطرقات وهذا ما يلحق الأذى بجزء من المواقع الأثرية .
التعدي بالزحف العمراني
وأضاف حمود قائلاً: الزحف العمراني على المواقع الأثرية من أهم الظواهر المؤذية للآثار بسبب الكثافة السكانية الهائلة إضافة إلى وجود زحف استثماري وزراعي واقتصادي أدى إلى إلحاق الأذى بهذه المواقع وتشجيرها أيضاً ألحق الأذى بها هذا فضلاَ عن بناء المسابح الذي يزيل البعض منها خاصة تلك الغير مسجلة، فالمسجلة مسيطر عليها كلياً أما المواقع الغير مسجلة والمكتشفة حديثاً يأخذ تسجيلها لسنتين وأحياناً أكثر من ذلك هذا قد يكون سببا بالقيام بالتعديات على هذه المواقع سّيما أن سعر الأرض خاصة في المحافظة ارتفاع بشكل غير عادي أدى إلى زحف العمراني على هذه المواقع لتخرب قبل تسجيها .
على أمل
نأمل من الحكومة الجديدة أن تزيد من الملاك العددي للحراس الأثريين لصالح مديرية الآثار والمتاحف حتى يتم وضع حد لهذا الاستنزاف لذاكرتنا الأثرية وحضارتنا العريقة التي تعبر في النهاية عن هويتنا الثقافية ووجودنا وماضينا وحاضرنا وغدنا ، فسورية كمحتف أثري يضم كل الحضارات كان ولا يزال يشكو حال ضعف حراسته ويئن تحت وطأة معاول المنقبين عن الآثار والمعتدين ببيوتهم ومقابرهم على المواقع الأثرية.
تحقيق علي العبدالله